Sunday, September 04, 2005

هل يفكر الإنسان برأسه أم ببطنه؟


هل يفكر الإنسان برأسه أم ببطنه؟
اكتشاف دماغ آخر يفكر ويعمل بشكل تلقائي في الجهاز الهضمي الذي يضم مليار خلية عصبية
الرياض: د. حسن محمد صندقجي نيويورك: هارييت براون* حينما يُطرح على أحدنا سؤال ما من قبيل: هل يشغل دماغ الرأس الفكر، أم أن الجسم أحياناً يدع لدماغ البطن تولي مهمة التفكير؟ أو أن كليهما يفكران معا؟ سنظل نفكر كثيرا مثل الكثير من الباحثين، بعدما تأكد وجود دماغ ثان متمدد عبر طول أجزاء الجهاز الهضمي. ومع تعمق الفهم لآليات عمله وبرامجه ستتضح معالمه أكثر وأكثر، وربما لن يكون بعد اليوم تهكماً قولنا إن فلاناً يفكر من بطنه أو أن هناك تأثيرا لدماغ بطنه على نوعية الإجابة لديه حول سؤال ما! الجهاز الهضمي يحتوي دماغاً قوياً وكبيراً وعلى درجة عالية من البرمجة العصبية الوظيفية وأيضاً على مستوى فريد من الاستقلالية في الأداء لا يقل أهمية عن الدماغ الذي يسكن في الرأس. وتزداد كل يوم معرفة الباحثين عن خفايا هذا الدماغ وسعته ومجالات عمله وتشعب علاقاته بالأجهزة والأعضاء المختلفة في الجسم. ونجد اليوم ظلماً حينما سمى العلماء من مئات السنين العصب الذي يغذي معظم أجزاء الجهاز الهضمي باسم العصب الحائر أو «فيغس نيرف»، وهو لا يغذي الجهاز الهضمي فقط بل يمتد إلى القلب والرئتين وغيرهما من أحشاء الصدر والبطن، فالحيرة هي أبعد ما تكون من صفاته. وعندما رأى علماء التشريح أنه عصب يخرج من قاع الجمجمة وينزل إلى الصدر والبطن لتتفرع منه العشرات من الأفرع ضنوا أنه حائر كالإنسان المنشغل بعدة وظائف لا يتقن أياً منها بيد أن الحال والواقع خلاف ذلك تماماً.
«أعصاب معوية»
* العلاقة بين الجهازين الهضمي والعصبي معروفة منذ زمن، بعد أن أثبتت إحدى التجارب الطريفة على القطط زيادة سرعة جريان الطعام في أمعائها لدى رؤيتها الكلاب عام 1902. وظهر وصف الجهاز العصبي المعوي أول مرة في ما قدمه الطبيب البريطاني الدكتور لانغلي عام 1921، وبعد وفاته نسي العلماء هذا الأمر إلى ان أعيد طرحه بقوة بعد سلسلة من الاكتشافات لمواد كيميائية تفرز داخل أجزاء الجهاز الهضمي لا تختلف بحال عن تلك التي تفرز في الدماغ بل وبشكل متزامن معها وبنفس الأسلوب. البحث في علاقة الدماغ بالجهاز العصبي قادت إلى تأسيس فرع مستقل من الأبحاث يسمى علم أعصاب الجهاز الهضمي، وجوانب تطور هذا الفرع من العلوم تشعبت اليوم بدءا من تشريح أجزاء الجهاز الهضمي لمعرفة التركيب الدقيق والعقد التي تتركز فيها الخلايا العصبية وأنواعها، ومروراً بالتأثيرات الحيوية الفسيولوجية لكل نوع منها، وبمشاركة علم الكيمياء الحيوية والغدد فتحت مشاريع بحث أخرى تفرع عنها علم الغدد الصماء العصبي في الجهاز الهضمي لقائمة طويلة من المواد الكيميائية العصبية.
ودخلت دراسات الخلايا الجذعية على خط البحث حول وجود خلايا جذعية في أرجاء طبقات الأمعاء، وصولاً إلى تتبع أثر هذا الجهاز الغامض العملاق والمتشعب من عالم دماغ الأمعاء على أمراض الجهاز الهضمي، بدءا من عيوب الولادة الخلقية لدى الأطفال إلى أمراض الكبار كقرحة المعدة والقولون العصبي الذي ربما ينطبق عليه وصف أطباء الجهاز الهضمي بالمثل القديم: «مالئ الدنيا وشاغل الناس» والإمساك. وربما ستكون قمتا هذا العلم دراسة تأثر وظائف الجهاز الهضمي وأمراضه في كل من حالة كبار السن ممن تتأثر لديهم وظائف خلايا الجهاز العصبي بتقدم العمر، وحالة تأثير الأمراض السرطانية في الجهاز الهضمي على وظائف الأعصاب فيه.
جهاز عصبي مستقل
* دور الجهاز العصبي الهضمي هو بالأساس الإشراف والتحكم في العمليات التي تناط بالجهاز الهضمي في الفم والمريء والمعدة والأمعاء الدقيقة والغليظة إلى الإخراج عبر الشرج. وهو ما يقوم به بمعزل مباشر عن تأثير الدماغ وباقي أجزاء الجهاز العصبي المركزي وحتى عن أجزاء من الجهاز العصبي اللاإرادي، عبر شبكات عصبية ومواد كيميائية تعمل على إيصال الرسائل بين الخلايا العصبية والخلايا المقصودة بالتأثير. وتنتشر هذه في طبقتين من طبقات جدران الأمعاء، الطبقة الأولى شبكات تغلغل خلال طبقة الخلايا المبطنة للأمعاء والتي تواجه مباشرة الغذاء وتتحكم في الهضم والامتصاص بكل العمليات المسؤولة عن ذلك وخاصة إفراز العصارات المتنوعة والمختلفة في كل مقطع من مقاطع الأنبوب الهضمي الطويل الممتد من الفم إلى فتحة الشرج، والطبقة الثانية تأخذ تشعباً أكثر تعقيداً في الظاهر لكن بطريقة محكمة التوزيع والانتشار ضمن طبقات حلقات العضلات في الأنبوب الطويل أيضاً وتتحكم في الحركة والضغط بكل أشكالها. إن من أهم عناوين هذا الجهاز العصبي الهضمي هي الاستقلالية التي تميزه في أدائه وظائفه، وربما هذا هو سر نجاحه بعيداً عن أي تأثيرات عصبية أخرى، التي متى ما تدخلت أخلت بانسيابية وسلاسة العمليات الحيوية للجهاز الهضمي. فوظيفة دماغ الرأس هي التحكم في تصرفات الجسم عبر برمجة الأعضاء، ويتميز دماغ الجهاز الهضمي بأن البرامج الوظيفية مخزنة فيه يختار في كل حالة ما يناسب سيرها وعملها من حركة الأمعاء وإفراز العصارات الهاضمة وامتصاص المواد الغذائية وضغط العضلات العاصرة وغيرها دون تأثير مباشر أو قوي من دماغ الرأس.
أمراض نفسية وأعصاب معوية
* نظرة أخرى هي التي تطرح اليوم حول الأمراض العصبية أو الاضطرابات العصبية وتأثيرها على الجهاز الهضمي. الدكتور مايكل غيرشون مؤلف كتاب «الدماغ الثاني» ورئيس قسم التشريح وعلم حياة الخلية بجامعة كولومبيا في معرض تدليله على تأثر الجهاز الهضمي بانشغال الذهن في أي أمر مهم يعلق قائلاً: كلما حولت إلى مؤسسة الصحة القومية طلباً باعتماد مشروع ما، ينتابني شعور بألم في المعدة نتيجة قلق دماغ البطن إضافة إلى قلق دماغ الرأس». وهو نفس ما نحس به من زيادة الرغبة في دخول الحمام قبل ليلة من اختبار مهم أو ذلك العصر في المعدة قبل إلقاء كلمة في محفل مهم. ويضيف الدكتور إمران ماير بروفسور الطب الباطني والنفسي بجامعة كاليفورنيا: «غالبية مرضى القلق والاكتئاب يعانون من فرط نشاط أجزاء الجهاز الهضمي» وهي أمور يحس كل منا بها. ولذا نلاحظ اليوم أن أعراض الأمراض أو آثار العلاج في الجهاز العصبي والجهاز الهضمي يؤثر كل منهما على الآخر، فأدوية الاكتئاب تثير اضطراباً في المعدة لدى من يتناولها، والتوتر والحزن يزيد من توتر عضلات المريء فيشعر حينها البعض بغصة في الحلق وصعوبة بلع الطعام بل نسمع كثيراً حينها من البعض عبارة لا رغبة لي في الأكل أو لا أستطيع بلع الطعام. إن مما لا يثير العجب أننا نعلم أن هناك علاقة مباشرة بين الضغوط النفسية العاطفية والاضطرابات العضوية. ويقول عنه البروفسور غاري ماوي ان كثيرا من اضطرابات عمل الجهاز الهضمي مرتبطة بالجهاز العصبي. لكن السؤال الأبرز اليوم من يسبق الآخر في الظهور، الاضطراب العضوي في الجهاز الهضمي أم الضغط العصبي على الدماغ؟ فالدماغ وأعصاب الجهاز الهضمي نسخة كربونية واحدة من ناحية آليات حصول التفاعلات فيها والمواد الكيميائية التي تقوم بتوصيل رسائلها بين الخلايا لإتمامها. أهم الموصلات الكيميائية هو مادة السيروتينين، وتفرز 95% منها الخلايا العصبية وغيرها في الجهاز الهضمي، وأنواع من الأدوية المعالجة للاكتئاب تعتمد في عملها رفع نسبة هذه المادة في الدماغ. ليس هذا فحسب بل مادة السيروتينين التي يفرزها الجهاز الهضمي هي ما تنقل الرسائل إلى الدماغ عما يجري تحته في باقي أعضاء الجسم، ولذا نلاحظ أن بعض أدوية السرطان تؤدي إلى القيء نتيجة زيادة إفراز الجهاز الهضمي لهذه المادة بما يثقل كاهل الدماغ عن اضطرابات الجسم فيحصل القيء. وكما أن الاكتئاب يحصل في بعض الأحيان نتيجة قلة السيروتينين في الدماغ فإن القولون العصبي بالعكس، زيادة إفرازه وقلة التخلص منه يؤديان إلى حالات متعاقبة من الاضطراب الوظيفي من خلال ظهور الإسهال والإمساك، ولذا فإن ظهور مصطلح الأدوية المضادة لاكتئاب الأمعاء كعلاج محتمل للقولون العصبي لم يعد أمراً غريباً لدى الباحثين. إن آفاق البحث العلمي اليوم حول الجهاز العصبي المعوي ستتجاوز في القريب العاجل مسائل الجهاز الهضمي لتبدأ بطرح علاقة القلب بها، فملاحظات الأطباء حول الخفقان أو اضطرابات النبض المرتبطة باضطرابات الجهاز الهضمي وخاصة القولون العصبي محل اهتمام، وأنواع من الطب البديل بدأت تركب الأمواج لتطرح فلسفاتها القديمة حول تأثير أنواع مختلفة من الأطعمة على المزاج والدماغ دونما تأثير مباشر لموادها الممتصة داخل الجسم بل عبر تأثيرها الأولي المباشر على الأطراف العصبية في الجهاز الهضمي، وسنسمع الكثير عنها وعن غيرها.
* «خدمة نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط